الأعلانـــات
الطائفية: قدرٌ أم صناعة؟
لم تولد الطائفية في العراق فجأة كما يتوهم بعضهم، ولم تهبط من سماء مجهولة لتقتطع الجسد الوطني إرباً. إنّها أشبه بجرح قديم ظل يُفتَح مع كل هزّة سياسية أو تدخل خارجي، حتى استقر في الوعي وكأنّه قدر محتوم. لكنّ الحقيقة أبعد من ذلك؛ فالطائفية صناعة بشرية، شاركت في حياكتها إمبراطوريات غابرة وقوى استعمارية حديثة، ثم ورثتها أنظمة محلية وجماعات تبحث عن غلبة أو سلطة. وما بين القدر والصناعة ضاع العراق زمناً طويلاً، يراوح بين هويته الجامعة وانقساماته المؤلمة. في الحقبة العثمانية، حين كان العراق جزءاً من دولة مترامية الأطراف، لم يكن السلطان معنياً بصهر الناس في هوية وطنية واحدة، بل بإحكام قبضته على الأطراف البعيدة. وهنا تحولت الطائفة إلى أداة سياسية صامتة، تُستخدم في توزيع المناصب وإدارة الولاءات. فالمذهب لم يعد مجرد انتماء ديني أو روحي، بل صار بطاقة تعريف تحدد موقع الفرد داخل هرم الدولة. ومع ذلك، ظل التعايش ممكناً، إذ لم تكن الطائفية ناراً مشتعلة بقدر ما كانت جمراً مستتراً تحت الرماد، يتوهج عند الحاجة ويخبو في فترات الاستقرار. ثم جاءت لحظة الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، فدخل الإنجليز العراق محمّلين بخبرة طويلة في إدارة الشعوب المستعمَرة. ولم يكن عسيراً عليهم أن يكتشفوا هشاشة البنية الاجتماعية وتنوعها، فقرروا أن يحكموا بالمعادلة القديمة: "فرّق تسد". وهكذا أعادوا تشكيل الجرح العثماني بملامح أوضح، حين شجعوا طرفاً على حساب آخر، وفتحوا أبواب الإدارة والسلطة وفق معايير لم تخلُ من الانحياز. بدا العراق الحديث وكأنّه وُلد بوصمة في جبينه، إذ تزامن ميلاد الدولة الوطنية عام 1921 مع تصاعد الإحساس بالغبن المذهبي والتمييز. ومنذ تلك اللحظة صار المذهب لا يكتفي بأن يكون رابطاً إيمانيا، بل غدا أداة سياسية ذات أثر مباشر في تشكيل السلطة. غير أنّ العراق لم يكن مجرّد طوائف متناحرة. لقد ظل يحمل في جوفه فسيفساء إنسانية غنية: مدن نابضة بالحياة، قبائل مترامية الأطراف، أقليات دينية عريقة. وكان بإمكان هذه الفسيفساء أن تصبح لوحة مدهشة لو أُحسن التعامل معها. لكنّ الأنظمة الوطنية التي ورثت الحكم لم تُفلح في بناء هوية جامعة. فبينما رفعت شعارات الوطنية، أو غلّفت نفسها بأيديولوجيات عابرة للطوائف كالبعثية والشيوعية، ظل الواقع اليومي يحمل ملامح التمييز. وهكذا صارت الطائفية مثل ظلٍ يتبع الدولة: قد يبهت حيناً ويخفت، لكنه لا يزول أبداً. ومع الحروب الطويلة، من الصراع مع إيران إلى غزو الكويت وما تلاه من حصار خانق، أخذت الطائفية تترسخ في اللاوعي الجمعي. ثم جاءت لحظة عام 2003 لتكون الانفجار الأكبر. الغزو الأمريكي لم يكتف بإسقاط نظام سياسي، بل فتح بوابة جهنمية على التاريخ. فقد أعيدت صياغة النظام الجديد على أساس المحاصصة، فقُسّمت الدولة كما تُقسم الغنيمة، وتحوّل الانتماء الطائفي إلى جواز مرور نحو السلطة أو الوظيفة أو حتى الأمان. ولم يعد المواطن يُسأل عن كفاءته أو ولائه للوطن، بل عن مذهبه الذي صار بطاقة شخصية ثانية، إن لم يكن الأولى. هنا تجلت الطائفية لا كجمر تحت الرماد، بل كحريق يلتهم الأخضر واليابس. الأحزاب تأسست على أساس مذهبي، الإعلام انقسم على هذا الخط، الفصائل المسلحة حملت أسماء تعكس هويتها الطائفية قبل أي شيء آخر. حتى الشوارع والمدن لم تسلم من التقسيم غير المعلن. بدا العراق وكأنّه عاد قروناً إلى الوراء، يوم كان المذهب سيفاً يشهر في وجه الآخر. لكن الفارق أنّ هذه المرة لم يكن السلطان العثماني أو المندوب البريطاني هو الذي يشد الخيوط من بعيد، بل صار الانقسام ذاته جزءاً من البنية الرسمية للدولة. غير أنّ الطائفية ليست مؤامرة خارجية خالصة، ولا قدراً داخلياً صرفاً. إنّها مزيج معقّد بين الاثنين. فالخارج لطالما استثمر في الانقسام ليستقوي به، والداخل طالما وجد في الطائفة ملاذاً أو وسيلة لمناكفة الخصوم. وهكذا ظل العراق أسيراً لدائرة مغلقة: كلما انهارت الدولة عاد الناس إلى طوائفهم، وكلما اشتدت الطائفية ضَعفت الدولة أكثر، حتى بدا الأمر وكأنّ التاريخ يكرر نفسه بلا انقطاع. لكن هل هذا هو قدر العراق حقاً؟ أليس في هذه الأرض التي أنجبت أقدم الحضارات، وأسست أولى المدن، وكتبت الشرائع، ما يجعلها قادرة على تجاوز جراحها؟ إنّ الطائفية، في جوهرها، ليست هوية بل سياسة. العراقي لم يولد ليكون شيعياً يعادي السني، أو سنياً يخاصم الشيعي، بل وُلد ليكون مواطناً في بلدٍ واحد، يختلف فيه الناس كما يختلفون في أي مكان، لكنهم يتفقون على جامع أكبر. لو لم تُستخدم الطائفة أداة للسيطرة، لكانت مجرّد تنوع ثقافي وروحي يثري الحياة. إن أخطر ما فعلته الطائفية أنّها حوّلت الماضي إلى قيد. العراقي لم يعد يرى جاره كما هو الآن، بل كما كان أسلافه قبل مئة أو مئتي عام. الذكريات القديمة جرى استدعاؤها بعناية لتغدو وقوداً للانقسام، حتى صار التاريخ سجناً بدلاً من أن يكون إرثاً مشتركاً. ومن هنا، فإنّ كسر الطائفية يبدأ من المصالحة مع الماضي: الاعتراف بأنّ الجرح قديم، لكنّ استدعاءه إلى الأبد لن يزيده إلا عمقاً. قد يكون الطريق شاقاً، لكنّ العراق لا يملك خياراً آخر. فإمّا أن يظل أسير لعبة الطوائف، حيث تتوزع المناصب كغنائم، وتُختصر الدولة في أحزاب مذهبية، وإمّا أن ينهض من ركامه ليؤسس عقداً اجتماعياً جديداً، قاعدته المواطنة لا الطائفة. وهذا لا يعني إنكار وجود الطوائف، فذلك وهم لا طائل منه، بل يعني تحويلها من هوية سياسية إلى مكوّن اجتماعي وثقافي طبيعي، مثل القبيلة أو العشيرة أو المدينة. عندها يصبح الانتماء الديني شأناً روحياً، لا بطاقة سياسية ولا سيفاً مرفوعاً. إنّ الطائفية ليست قدراً مكتوباً على جبين العراق، بل صناعة تاريخية يمكن تفكيكها كما صُنعت. وحده الوعي الجديد، الذي يرى في الجار إنساناً قبل أن يكون مذهباً، قادر على تحويل الجرح إلى درس، والمأساة إلى بداية أخرى. فالعراق الذي قاوم الغزاة عبر تاريخه الطويل، وشيّد حضارات لا تزال أصداؤها تتردد في العالم، قادر على أن يخرج من محنته إذا شاء، وأن يستعيد اسمه الأول: وطنٌ للجميع، لا ساحة للطوائف.
متابعة: سما بغداد
كتب رياض الفرطوسي 
2025-08-19 01:34 PM125
اخر الأخبار
  • الحواسيب الكمية - تكنولوجيا المستقبل الحواسيب الكمية الحواسيب الكمية
  • ما هي تكنولوجيا الميتافيرس، وكيف ستُغير الإنترنت إلى الأبد؟
  • شاهد الي أي مدي وصل التطور التكنولوجي
قسم الأخبـار
  • شعار منظمة جدار الرحمة الإنسانية
  • منظمة جدار الرحمة الإنسانية
  • منظمة جدار الرحمة الإنسانية
  • منظمة جدار الرحمة الإنسانية
  • منظمة جدار الرحمة الانسانية
أفادت وكالة الاستخبارات الاتحادية الإطاحة بمن يسمّى مسؤول توزيع كفالات تنظيم داعش في شمال العاصمة بغداد.

أفادت وكالة الاستخبارات الاتحادية الإطاحة بمن يسمّى "مسؤول توزيع كفالات تنظيم داعش في شمال العاصمة بغداد. وذكرت المديرية في بيان صباح اليوم الخميس 21 آب 2025، أنه "بعملية نوعية استندت إلى معلومات استخبارية دقيقة، تمكنت مفارز مديرية الاستخبارات العسكرية في فرقة المشاة السادسة وبالتنسيق مع وكال...

2025-08-21 12:03 PM52
المزيد
ارتفعت حصيلة الحادث المروري الذي وقع صباح اليوم في قضاء سفوان بالبصرة، إلى 5 وفيات وأربع إصابات غالبيتهم أجانب

ارتفعت حصيلة الحادث المروري الذي وقع صباح اليوم في قضاء سفوان بالبصرة، إلى 5 وفيات وأربع إصابات غالبيتهم أجانب. وأفاد مراسل "الجبال"، اليوم الخميس 21 آب 2025، بـ "ارتفاع حصيلة الحادث المروري المروع على الطريق السريع قرب سفوان– البصرة إلى خمس وفيات من الزائرين الهنود والباكستانيين، وإصابة أربع...

2025-08-21 12:00 PM44
المزيد
دعا السيد عمار الحكيم، اليوم الخميس الى ضرورة استمرار محاربة الإرهاب فكريا وأمنيا واقتصاديا

دعا رئيس تيار الحكمة الوطني، السيد عمار الحكيم، اليوم الخميس الى ضرورة استمرار محاربة الإرهاب فكريا وأمنيا واقتصاديا ومنع عودة خطاب الكراهية والتطرف. الحكيم، قال في بيان انه “في اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم، نستذكر أرواح الأبرياء الذين أُزهقت حياتهم على يد قوى الظلام والإرهاب، ...

2025-08-21 11:56 AM40
المزيد
اتّهمت منظمة العفو الدولية السلطات الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان من خلال استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي

اتّهمت منظمة العفو الدولية السلطات الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان من خلال استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لمراقبة المهاجرين والمتظاهرين الأجانب المؤيدين للفلسطينيين، فيما تتزايد الاحتجاجات ضد الحرب في قطاع غزة. وقالت إيريكا غيفارا-روساس، المديرة العامة للبحوث في العفو الدولية في بيان صادر عن المن...

2025-08-21 11:51 AM49
المزيد
أصدر مجلس القضاء الأعلى، اليوم الخميس، توضيحاً بشأن حادث وفاة الطبيبة بان زياد

أصدر مجلس القضاء الأعلى، اليوم الخميس، توضيحاً بشأن حادث وفاة الطبيبة بان زياد، فيما أعرب عن أسفه لما يتم تداوله بخصوص الحادث رغم الإيضاح الرسمي الصادر عنه. وذكر مجلس القضاء في بيان ورد لـ"ميل": "نأسف لما يتم تداوله بخصوص حادث وفاة الطبيبة بان زياد، رغم الإيضاح الرسمي الصادر عنه يوم الاثنين الما...

2025-08-21 11:46 AM48
المزيد
القائد العام للقوات المسلحة السيد محمد شياع السوداني يترأس الاجتماع الدوري للمجلس الوزاري للأمن الوطني

ترأس رئيس مجلس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة السيد محمد شياع السوداني، اليوم الأربعاء، الاجتماع الدوري للمجلس الوزاري للأمن الوطني، جرى خلاله بحث مجمل الأوضاع الأمنية في البلاد، والنظر في الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال، واتخاذ القرارات والتوصيات اللازمة بشأنها. وناقش الاجتماع الإج...

2025-08-21 11:40 AM56
المزيد
شرطة ميسان : عملية استباقية لتعزيز الواقع الامني في مركز مدينة العمارة

 اعلنت" قيادة شرطة محافظة ميسان في بيان لها : اليوم الاربعاء عن تنفيذ عملية استباقية ضمن قاطع البلدة بالاشتراك مع قوة منّ اللواء الحادي عشر شرطة اتحادية ، تضمنت نصب سيطرات اعتراضية وعمليات دهم وتفتيش ، اسفرت عن القبض على متهمين عدد (2) احدهم مطلوب وفق المادة (406) القتل العمد ، بالإضافة الى ض...

2025-08-21 11:37 AM113
المزيد
جامعة الفرات الأوسط التقنية تبحث مع كهرباء النجف تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والخدمات

استقبلت جامعة الفرات الأوسط التقنية معاون مدير كهرباء النجف الأشرف المهندس فراس الحداد، في زيارة هدفت إلى بحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين. وجرت الزيارة في مكتب السيد رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور حسن لطيف الزبيدي، بحضور مساعد رئيس الجامعة للشؤون الإدارية الأستاذ الدكتور محمد عبد المح...

2025-08-21 11:33 AM67
المزيد
ملاكات محطة كهرباء القدس الحرارية تعيد الوحدة التوليدية الرابعة للخدمة بطاقة 95 ميكاواط بوقت قياسي

ملاكات محطة كهرباء القدس الحرارية تعيد الوحدة التوليدية الرابعة للخدمة بطاقة 95 ميكاواط بوقت قياسي بعد معالجة العارض الطاريء ومدير عام انتاج كهرباء الوسط يشيد بالجهود المبذولة في سرعة الاستجابة. ، بإشراف مدير عام إنتاج كهرباء الوسط المهندس علي أحمد الساعدي ، وبمتابعة السيد مدير المحطة المهندس...

2025-08-21 11:28 AM87
المزيد
شرطة ميسان تواصل تنفيذ واجباتها الأمنية على ضفاف نهر دجلة

اعلنت قيادة شرطة محافظة ميسان في بيان لها : ان قسم الشرطة النهرية يواصل أداء مهامه الأمنية على ضفاف نهر دجلة، من خلال تسيير دوريات نهرية بشكل يومي، تغطي مناطق متعددة ضمن الحدود الإدارية للمحافظة. واضاف" البيان : ان هذه الجهود المكثفة تاتي باشراف مباشر من السيد قائد شرطة محافظة ميسان، اللواء ز...

2025-08-21 11:24 AM116
المزيد
عرض المزيد
أقسام الموقع
  • منوعات
    التفاصيل
  • الاقسام
    التفاصيل
  • تقارير
    التفاصيل
  • من نحن
    التفاصيل
  • الاخبار الثقافية والفنية
    التفاصيل
  • الاخبار الامنية
    التفاصيل
  • السياسة
    التفاصيل
  • مقالات وبحوث
    التفاصيل
  • اخبار الاقتصاد
    التفاصيل
صفحتنا الرسمية على الفيس بوك